فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال النسفي:

سورة المزمل صلى الله عليه وسلم.
مكية.
وهي تسع عشرة آية بصري وثمان عشرة شامي.
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
{يأيُّها المزمل} أي المتزمل وهو الذي تزمل في ثيابه أي تلفف بها بإدغام التاء في الزاي.
كان النبي صلى الله عليه وسلم نائما بالليل متزملا في ثيابه فأمر بالقيام للصلاة بقوله: {قُمِ الليل إِلاّ قلِيلا نِّصْفهُ} بدل من {الليل} و{إِلاّ قلِيلا} استثناء من قوله: {نّصْفهُ} تقديره: قم نصف الليل إلا قليلا من نصف الليل {أوِ انقص مِنْهُ} من النصف.
بضم الواو: غير عاصم وحمزة {قلِيلا} إلى الثلث {أوْ زِدْ عليْهِ} على النصف إلى الثلثين، والمراد التخيير بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه، وإن جعلت {نِّصْفهُ} بدلا من {قلِيلا} كان مخيرا بين ثلاثة أشياء: بين قيام نصف الليل تاما، وبين قيام الناقص منه، وبين قيام الزائد عليه.
وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل وإلا فإطلاق لفظ القليل ينطلق على ما دون النصف ولهذا قلنا: إذا أقرّ أن لفلان عليه ألف درهم إلا قليلا أنه يلزمه أكثر من نصف الألف {ورتّلِ القرءان} بين وفصل من الثغر المرتل أي المفلج الأسنان، وكلام رتلٌ بالتحريك أي مرتل، وثغر رتل أيضا إذا كان مستوي البنيان.
أو اقرأ على تؤدة بتبيين الحروف وحفظ الوقوف وإشباع الحركات {ترْتِيلا} هو تأكيد في إيجاب الأمر به وأنه لابد منه للقارئ {إِنّا سنُلْقِى عليْك} سننزل عليك {قولا ثقِيلا} أي القرآن لما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين، أو ثقيلا على المنافقين، أو كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف الخفيف.
{إِنّ ناشِئة الليل} بالهمزة: سوى ورش: قيام الليل. عن ابن مسعود رضي الله عنه.
فهي مصدر من نشأ إذا قام ونهض على فاعلة كالعافية، أو العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث، أو ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة فساعة، وكان زين العابدين رضي الله عنه يصلي بين العشاءين ويقول هذه ناشئة الليل {هِى أشدُّ وطاء} وفاقا شامي وأبو عمرو أي يواطيء فيها قلب القائم لسانه.
وعن الحسن: أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق.
وغيرهما {وطْأ} أي أثقل على المصلي من صلاة النهار لطرد النوم في وقته من قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» {وأقْومُ قِيلا} وأشد مقالا وأثبت قراءة لهدوء الأصوات وانقطاع الحركات {إِنّ لك في النهار سبْحا طوِيلا} تصرفا وتقلبا في مهماتك وشواغلك ففرّغ نفسك في الليل لعبادة ربك أو فراغا طويلا لنومك وراحتك {واذكر اسم ربِّك} ودم على ذكره في الليل والنهار، وذكر الله يتناول التسبيح والتهليل والتكبير والصلاة وتلاوة القرآن ودراسة العلم {وتبتّلْ إِليْهِ} انقطع إلى عبادته عن كل شيء.
والتبتل: الانقطاع إلى الله تعالى بتأميل الخير منه دون غيره.
وقيل: رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله {تبْتِيلا} في اختلاف المصدر زيادة تأكيد أي بتّلك الله فتبتل تبتيلا أو جيء به مراعاة لحق الفواصل.
{رّبُّ المشرق والمغرب} بالرفع أي هو رب أو مبتدأ خبره {لا إله إِلاّ هُو} وبالجر: شامي وكوفي غير حفص بدل من {ربّك} وعن ابن عباس رضي الله عنهما على القسم بإضمار حرف القسم نحو: الله لأفعلن، وجوابه لا إله إلا هو كقولك: والله لا أحد في الدار إلا زيد {فاتخذه وكِيلا} وليا وكفيلا بما وعدك من النصر، أو إذا علمت أنه ملك المشرق والمغرب وأن لا إله إلا هو فاتخذه كافيا لأمورك.
وفائدة الفاء أن لا تلبث بعد أن عرفت في تفويض الأمور إلى الواحد القهار إذ لا عذر لك في الانتظار بعد الإقرار.
{واصبر على ما يقولون} فيّ من الصاحبة والولد وفيك من الساحر والشاعر {واهجرهم هجْرا جمِيلا} جانبهم بقلبك وخالفهم مع حسن المحافظة وترك المكافأة.
وقيل: هو منسوخ بآية القتال {وذرْنِى} أي كِلْهم إليّ فأنا كافيهم {والمكذبين} رؤساء قريش مفعول معه أو عطف على {ذرْنِى} أي دعني وإياهم {أُوْلِى النعمة} التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة {ومهِّلْهُمْ} إمهالا {قلِيلا} إلى يوم بدر أو إلى يوم القيامة {إِنّ لديْنا} للكافرين في الآخرة {أنكالا} قيودا ثقالا جمع نِكْل {وجحِيما} نارا محرقة {وطعاما ذا غُصّةٍ} أي الذي ينشب في الحلوق فلا ينساغ يعني الضريع والزقوم {وعذابا ألِيما} يخلص وجعه إلى القلب.
ورُوي «أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق» وعن الحسن أنه أمسى صائما فأتي بطعام فعرضت له هذه الآية فقال: ارفعه.
ووضع عنده الليلة الثانية فعرضت له فقال: ارفعه، وكذلك الليلة الثالثة فأخبر ثابت البناني وغيره فجاءوا فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق.
{يوْم} منصوب بما في {لديْنا} من معنى الفعل أي استقر للكفار لدينا كذا وكذا يوم {ترْجُفُ الأرض والجبال} أي تتحرك حركة شديدة {وكانتِ الجبال كثِيبا} رملا مجتمعا من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول {مّهِيلا} سائلا بعد اجتماعه {إِنّا أرْسلْنا إِليْكُمْ} يا أهل مكة {رسُولا} يعني محمدا عليه السلام {شاهدا عليْكُمْ} يشهد عليكم يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم {كما أرْسلْنا إلى فِرْعوْن رسُولا} يعني موسى عليه السلام {فعصى فِرْعوْنُ الرسول} أي ذلك الرسول (إذ) النكرة وإذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول {فأخذناه أخْذا وبِيلا} شديدا غليظا.
وإنما خص موسى وفرعون لأن خبرهما كان منتشرا بين أهل مكة لأنهم كانوا جيران اليهود {فكيْف تتّقُون إِن كفرْتُمْ يوْما} هو مفعول {تتّقُون} أي كيف تتقون عذاب يوم كذا إن كفرتم؟ أو ظرف أي فكيف لكم التقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا؟ أو منصوب ب {كفرْتُمْ} على تأويل جحدتم أي كيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء لأن تقوى الله خوف عقابه {يجْعلُ الولدان} صفة ل {يوْما} والعائد محذوف أي فيه {شِيبا} من هوله وشدته وذلك حين يقال لآدم عليه السلام: قم فابعث بعث النار من ذريتك وهو جمع أشيب.
وقيل: هو على التمثيل للتهويل يقال لليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال.
{السّماءُ مُنفطِرٌ بِهِ} وصف لليوم بالشدة أيضا أي السماء على عظمها وإحكامها تنفطر به أي تنشق فما ظنك بغيرها من الخلائق؟ والتذكير على تأويل السماء بالسقف أو السماء شيء منفطر، وقوله: {بِهِ} أي بيوم القيامة يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما يفطر به {كان وعْدُهُ} المصدر مضاف إلى المفعول وهو اليوم، أو إلى الفاعل وهو الله عز وجل {مفْعُولا} كائنا {إِنّ هذه} الآيات الناطقة بالوعيد {تذْكِرةٌ} موعظة {فمن شاء اتخذ إلى ربّهِ سبِيلا} أي فمن شاء اتعظ بها واتخذ سبيلا إلى الله بالتقوى والخشية.
{إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدنى} أقل فاستعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز، وإذا بعدت كثر ذلك {مِن ثُلُثىِ الليل} بضم اللام: سوى هشام {ونِصْفهُ وثُلُثهُ} منصوبان عطف على {أدنى} مكي وكوفي، ومن جرهما عطف على {مِن ثُلُثىِ} {وطائِفةٌ} عطف على الضمير في {تقُومُ} وجاز بلا توكيد لوجود الفاصل {مِّن الذين معك} أي ويقوم ذلك المقدار جماعة من أصحابك {والله يقدراليل والنهار} أي ولا يقدر على تقدير الليل والنهار ولا يعلم مقادير ساعاتهما إلا الله وحده.
وتقديم اسمه عز وجل مبتدأ مبنيا عليه {يقدر} هو الدال على أنه مختص بالتقدير، ثم إنهم قاموا حتى انتفخت أقدامهم فنزل {علِم أن لّن تُحْصُوهُ} لن تطيقوا قيامه على هذه المقادير إلا بشدة ومشقة وفي ذلك حرج {فتاب عليْكُمْ} فخفف عليكم وأسقط عنكم فرض قيام الليل {فاقرءوا} في الصلاة والأمر للوجوب أو في غيرها والأمر للندب {ما تيسّر} عليكم {مِن القرءان} روى أبو حنيفة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «من قرأ مائة آية في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين»
وقيل: أراد بالقرآن الصلاة لأنه بعض أركانها أي فصلوا ما تيسر عليكم ولم يتعذر من صلاة الليل وهذا ناسخ للأول، ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس، ثم بين الحكمة في النسخ وهي تعذر القيام على المرضى والمسافرين والمجاهدين فقال: {علِم أن سيكُونُ مِنكُمْ} أي أنه مخففة من الثقيلة والسين بدل من تخفيفها وحذف اسمها {مّرْضى} فيشق عليهم قيام الليل.
{وءاخرُون يضْرِبُون في الأرض} يسافرون {يبْتغُون} حال من ضمير {يضْرِبُون} {مِن فضْلِ الله} رزقه بالتجارة أو طلب العلم {وءاخرُون يقاتلون في سبِيلِ الله} سوّى بين المجاهد والمكتسب لأن كسب الحلال جهاد.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء»
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحب إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله». {فاقرءوا ما تيسّر مِنْهُ} كرر الأمر بالتيسير لشدة احتياطهم {وأقِيمُواْ الصلاة} المفروضة {وءاتُواْ الزكواة} الواجبة {وأقْرِضُواُ الله} بالنوافل.
والقرض لغة: القطع فالمقرض يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره، وكذا المتصدق يقطع ذلك القدر من ماله فيجعله لله تعالى، وإنما أضافه إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما تصدق به عليه وهذا لأن الفقير معاون له في تلك القربة فلا يكون له عليه منة بل المنة للفقير عليه {قرْضا حسنا} من الحلال بالاخلاص {وما تُقدّمُواْ لأنْفُسِكُم مّنْ خيْرٍ تجِدُوهُ} أي ثوابه وهو جزاء الشرط {عِند الله هُو خيْرا} مما خلفتم وتركتم فالمفعول الثاني ل {تجِدُوهُ} {خيرا} و{هُو} فصل.
وجاز وإن لم يقع بين معرفتين لأن أفعل من أشبه المعرفة لامتناعه من حرف التعريف {وأعْظم أجْرا} وأجزل ثوابا {واستغفروا الله} من السيئات والتقصير في الحسنات {إِنّ الله غفُورٌ} يستر على أهل الذنب والتقصير {رّحِيمٌ} يخفف عن أهل الجهد والتوفيق وهو على ما يشاء قدير، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

سورة المزمل صلى الله عليه وسلم:
{يا أيها المزمل} نداء للنبي صلى الله عليه وسلم، ووزن {المزمل} متفعل فأصله متزمل. ثم سكنت التاء وأدغمت في الزاي.
وفي تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بالمزمل ثلاثة أقوال:
أحدها أنه كان في وقت نزول الآية متزملا في كساء أو لحاف، والتزمل الالتفاف في الثياب بضم وتشمير، هذا قول عائشة والجمهور.
والثاني أنه كان قد تزمل في ثيابه للصلاة.
الثالث أن معناه المتزمل للنبوّة أي المتشمر، المجدّ في أمرها.
والأول هو الصحيح لما ورد في البخاري ومسلم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاءه الملك وهو في غار حراء في ابتداء الوحي رجع صلى الله عليه وسلم إلى خديجة ترعد فرائصه فقال: زملوني زملوني، فنزلت يا أيها المدثر»، وعلى هذا نزلت يا أيها المزمل على هذا تزمله من أجل الرعب الذي أصابه أول ما جاء جبريل.
وقال الزمخشري: كان نائما في قطيفة فنودي: {يا أيها المزمل}، ليبين الله الحالة التي كان عليها من التزمل في القطيفة، لأنه سبب للنوم الثقيل المانع من قيام الليل. وهذا القول بعيد غير سديد.
وقال السهيلي: في ندائه بالمزمل فائدتان: إحدهما الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها، كقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: «قم أبا تراب».
والفائدة الثانية:
التنبيه لكل متزمل راقد بالليل ليتنبه إلى ذكر الله، لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطب وكل من اتصف بتلك الصفة.
{قُمِ اليل} هذا الأمر بقيام الليل اختلف هل هو واجب أو مندوب، فعلى القول بالندب فهو ثابت غير منسوخ، وأما على القول بالوجوب ففيه ثلاثة أقوال: أحدها أنه فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وحده، ولم يزل فرضا عليه حتى توفي، الثاني أنه فرض عليه وعلى أمته فقاموا حتى انتفخت أقدامهم، ثم نسخ بقوله في آخر السورة: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ} [المزمل: 20] الآية: وصار تطوعا، هذا قول عائشة رضي الله عنها وهو الصحيح، واختلف كما بقي فرضا فقالت عائشة: عاما وقيل: ثمانية أشهر وقيل: عشرة أعوام فالآية الناسخة على هذا مدنية، الثالث أنه فرض عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أمته وهو ثابت غير منسوخ، ولكن ليس الليل كله إلا ما تيسر منه، وهو مذهب الحسن وابن سيرين {إِلاّ قلِيلا نِّصْفهُ أوِ انقص مِنْهُ قلِيلا أوْ زِدْ عليْهِ} في معنى هذا الكلام أربعة أقوال:
الأول وهو الأشهر والأظهر أن الاستثناء من الليل، وقوله: {نصفه} بدل من {الليل} أو من {قليلا}، وجعل النصف قليلا بالنسبة إلى الجميع والضميران في قوله: {أو انقص منه}، {أو زد عليه}: عائدان على النصف. والمعنى أن الله خيّره بين ثلاثة أحوال: وهو أن يقوم نصف الليل، أو ينقص من النصف قليلا أو يزد عليه.
الثاني: قال الزمخشري: {إلا قليلا} استثناء من النصف كأنه قال نصف الليل إلا قليلا. فخيّره على هذا بين حالتين وهما أن يقوم أقل من النصف أو أكثر منه. وهذا ضعيف، لأن قوله: {أو انقص منه قليلا} تضمن معنى النقص من النصف فلا فائدة زائدة في استثناء القليل من النصف.
القول الثالث قاله الزمخشري أيضا: يجوز أن يريد بقوله: {أو انقص منه قليلا} نصف النصف، وهو الرابع ويكون الضمير في قوله: {أوْ زِدْ عليْهِ} يعود على ذلك، أي زد على الربع فيكون ثلثا، فيكون التخيير على هذا بين قيام النصف أو الثلث أو الربع، وهذا ايضا بعيد.
القول الرابع قاله ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى إلا قليلا الليالي التي يمنعه العذر من القيام فيها، والمراد بالليل على هذا: الليالي، فهو جنس. وهذا بعيد، لأنه قد فسر هذا القليل المستثنى بما بعد ذلك من نصف الليل أو النقص منه أو الزيادة عليه، فدل ذلك على أن المراد بالليل المستثنى بعض أجزاء الليل، لا بعض الليالي، إن قيل: لم قيد النقص من النصف بالقلة فقال: {أو انقص منه قليلا}، وأطلق في الزيادة فقال: أو زد عليه، ولم يقل قليلا؟ فالجواب: أن الزيادة تحسن فيها الكثرة فلذلك لم يقيدها بالقلة بخلاف النقص، فإنه لو أطلقه لاحتمل أن ينقص من النصف كثيرا.
{ورتِّلِ القرآن ترْتِيلا} الترتيل هو التمهل والمد وإشباع الحركات وبيان الحروف، وذلك مُعينٌ على التفكر في معاني القرآن، بخلاف الهذر الذي لا يفقه صاحبه ما يقول، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقطِّع قراءته حرفا حرفا، ولا يمرُّ بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمرّ بآية عذاب، إلا وقف وتعوّذ.
{إِنّا سنُلْقِي عليْك قولا ثقِيلا} هذه الآية اعتراض بين أية قيام الليل، والقول الثقيل هو القرآن. واختلف في وصفه بالثقل على خمسة أقوال:
أحدها: أنه سمى ثقيلا لما كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقاه من الشدة عند نزول الوحي عليه، حتى أن جبينه ليتفصّد عرقا في اليوم الشديد البرد، وقد كان يثقل جسمه عليه الصلاة والسلام بذلك حتى إنه إذا أوحي إليّه وهو على ناقته بركت به، وأوحي إليّه وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فكادت أن ترض فخذ زيد، والثقل على هذا حقيقة.
الثاني أنه قيل على الكفار بإعجازه ووعيده.
الثالث أن ثقيل في الميزان.
الرابع أنه كلام له وزن ورجحان.
الخامس أنه ثقيل لما تضمن من التكاليف والأوامر والنواهي، وهذا اختيار ابن عطية. وعلى هذا يناسب الاعتراض بهذه الآية، قيام الليل لمشقته.
{إِنّ ناشِئة الليل} في الناشئة سبعة أقوال:
الأول أنه النفس الناشئة بالليل، أي التي تنشأ من مضجعها وتقوم للصلاة.
الثاني الجماعات الناشئة الذين يقومون للصلاة.
الثالث العبادة الناشة بالليل أي تحدث فيه.
الرابع الناشئة القيام بعد النوم فمن قام أول الليل قبل أن ينام فلم يقم ناشئة.
الخامس الناشئة القيام أو الليل بعد العشاء.
السادس الناشئة بعد المغرب والعشاء.
السابع ناشئة الليل ساعاته كلها.
{هِي أشدُّ وطْأ} يحتمل معنيين أحدهما:
أثقل وأصعب على المصلي ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم أشدد وطأتك على مضر»، والأثقل أعظم أجرا، فالمعنى تحريض على قيام الليل لكثرة الأجر.
الثاني أشدّ ثبوتا من أجل الخلوة وحضور الذهن والبعد عن الناس، ويقرب هذا من معنى {أقْومُ قِيلا}.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر {وِطاء} بكسر الواو على وزن فِعال ومعناه موافقة. أي يوافق القلب اللسان بحضور الذهن.
{إِنّ لك فِي النهار سبْحا طوِيلا} السبح هنا عبارة عن التصرف في الاشتغال، والمعنى: يكفيك النهار للتصرف في أشغالك وتفرغ بالليل لعبادة ربك، وقيل: المعنى إن فاتك شيء من صلاة الليل فإدّهِ بالنهار فإنه طويل يسع ذلك {واذكر اسم ربِّك} قيل: معناه قل: بسم الله الرحمن الرحيم، في أول صلاتك. واللفظ أعم من ذلك {وتبتّلْ إِليْهِ تبْتِيلا} أي انقطع إليه بالعبادة والتوكل عليه وحده. وقيل: التبتل رفض الدنيا. وتبتيلا مصدر على غير قياس {فاتخذه وكِيلا} الوكيل هو القائم بالأمور والذي توكل إليه الأشياء، فهو أمر بالتوكل على الله.
{واصبر على ما يقولون} أي على ما يقول الكفار. والآية منسوخة بالسيف، وقيل: إنما المنسوخ المهادنة التي يقتضيها قوله: {واهجرهم هجْرا جمِيلا} وأما الصبر فمأمور به في كل وقت {وذرْنِي والمكذبين} هذا تهديد لهم، وانتصب {المكذبين} على أنه مفعول معه أو معطوف {وذرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة} أي التنعم في الدنيا، وروي أن الآية نزلت في بني المغيرة وهم قوم من قريش كانوا متنعمين في الدنيا {أنكالا} جمع نِكْل وهو القيد من الحديد. رُوي أنها قيود سود من نار {وطعاما ذا غُصّةٍ} شجرة الزقوم، ومعنى {ذا غصة}: أي يغُصُّ به آكلوه، وقيل: هو شوك يعترض في حلقوهم لا ينزل ولا يخرج، ورُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فصعق {يوْم ترْجُفُ الأرض} أي تهتز وتتزلزل والعامل في يوم معنى الكلام المتقدم وهو {إن لدينا أنكالا} {وكانتِ الجبال كثِيبا مّهِيلا} الكثيب كدس الرمل، والمهيل اللين الرخو، الذي تهيله الريح أي تنشره وزنه مفعول، والمعن أن الجبال تصير إذا نسفت يوم القيامة مثل الكثيب.
{إِنّآ أرْسلْنآ إِليْكُمْ رسُولا} خطاب لجميع الناس، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة، وقال الزمخشري: هو خطاب لأهل مكة {شاهِدا عليْكُمْ} أي يشهد على أعمالكم من الكفر والإيمان والطاعة والمعصية، وإنما يشهد على من أدركه لقوله صلى الله عليه وسلم: أقول كما قال أخي عيسى: {وكُنتُ عليْهِمْ شهِيدا مّا دُمْتُ فِيهِمْ فلمّا توفّيْتنِي كُنت أنت الرّقِيب عليْهِمْ} [المائدة: 117] {كمآ أرْسلْنآ إلى فِرْعوْن رسُولا} يعني موسى عليه السلام وهو المراد بقوله: {فعصى فِرْعوْنُ الرسول} فاللام للعهد {فأخذْناهُ أخْذا وبِيلا} أي عظيما شديدا.
{فكيْف تتّقُون إِن كفرْتُمْ يوْما يجْعلُ الولدان شِيبا} {يوما} مفعول به، وناصبه {تتقون} أي: كيف تتقون يوم القيامة وأهواله إن كفرتم، وقيل: هو مفعول به، على أن يكون {كفرتم} بمعنى جحدتم، وقيل، هو ظرف، أي كيف لكم بالتقوى يوم القيامة، ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوف تقديره: اذكروا قوله: {السّماءُ مُنفطِرٌ بِهِ} {يجْعلُ الولدان شِيبا} {الولدان} جمع وليد وهو الطفل الصغير، والشيب بكسر الشين جمع أشيب ووزنه فُعُل بضم الفاء وكسرت لأجل الياء، ويجعل يحتمل أن يكون مسندا إلى الله تعالى أو إلى اليوم، والمعنى أن الأطفال يشيبون يوم القيامة، فقيل: إن ذلك حقيقة، وقيل: إنه عبارة عن هول ذلك اليوم، وقيل: إنه عبارة عن طوله {السّماءُ مُنفطِرٌ بِهِ} الانفطار: الانشقاق، والضمير المجرور يعود على اليوم، أي: تتفطر السماء لشدة هوله ويحتمل أن يعود على الله أن تنفطر بأمره وقدرته. والأول أظهر، و{السماء} مؤنثة، وجاء {منفطر} بالتذكير لأن تأنيثها غير حقيقة أو على الإضافة تقديره: ذات انفطار أو لأنه أراد السقف {كان وعْدُهُ مفْعُولا} الضمير في {وعده} يحتمل أن يعود على اليوم أو على الله والأول أظهر؛ لأنه ملفوظ به {إِنّ هذه تذْكِرةٌ} الإشارة إلى ما تقدم من المواعظ والوعيد {فمن شاء اتخذ إلى ربِّهِ سبِيلا} يريد سبيل التقرب إلى الله، ومعنى الكلام حض على ذلك وترغيب فيه.
{إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدنى مِن ثُلُثيِ الليل} هذه الآية نزلت ناسخة لما أمر به في أول السورة من قيام الليل، ومعناه أن الله يعلم أنك ومن معك من المسلمين تقومون قياما مختلفا، مرة يكثر ومرة يقل، لأنكم لا تقدرون على إحصاء أوقات الليل وضبطها، فإنه لا يقدر على ذلك إلا الله فخفف عنكم وأمركم أن تقرأوا ما تيسر من القرآن {ونِصْفهُ وثُلُثهُ} من قرأها بالخفض فهو عطف على {ثلثي الليل}، أي تقوم أقل من ثلثي الليل واقل من نصفه وثلثه، ومن قرأ بالنصب فهو عطف على {أدنى} أي تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه تارة وثلثه تارة {وطآئِفةٌ} يعني المسلمين وهو معطوف على الضمير الفاعل في {تقوم} {علِم أن لّن تُحْصُوهُ} الضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام، أي لن تحصوا تقدير الليل، وقيل: معناه لن تطيقوه أي: لن تطيقوا قيام الليل كله {فتاب عليْكُمْ} عبارة عن التخفيف كقوله: {فإِذْ لمْ تفْعلُواْ وتاب الله عليْكُمْ} [المجادلة: 13] {فاقرءوا ما تيسّر مِن القرآن} أي إذا لم تقدروا على قيام الليل كله، فقوموا بعضه، واقرأوا في صلاتكم بالليل ما تيسر من القرآن، وهذا الأمر للندب، وقال ابن عطية: هو للإباحة عند الجمهور.
وقال قوم منهم الحسن وابن سيرين: هو فرض لابد منه ولو أقل ما يمكن، حتى قال بعضهم: من صلى الوتر فقد امتثل هذا الأمر، وقيل: كان فرضا ثم نسخ بالصلوات الخمس، وقال بعضهم: هو فرض على أهل القرآن دون غيرهم {علِم أن سيكُونُ مِنكُمْ مرضى} ذكر الله في هذه الآية الأعذار التي تكون لبني آدم تمنعهم من قيام الليل، فمنها المرض ومنها السفر للتجارة وهي الضرب في الأرض لابتغاء فضل الله ومنها الجهاد، ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر، تأكيدا للأمر به أو تأكيدا للتخفيف وهذا أظهر لأنه ذكره بأثر الأعذار {وأقِيمُواْ الصلاة وآتُواْ الزكاة} يعني المكتوبتين {وأقْرِضُواُ الله} معناه تصدقوا، وقد ذكر في [البقرة: 45] {هُو خيْرا} نصب {خيرا} لأنه مفعول ثان لـ: {تجدوه} والضمير فصل {واستغفروا الله} قال بعض العلماء إن الاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثا». اهـ.